سوضح من الشواهد التاريخية أن الإمام عليهالسلام لم يقبل ولاية العهد إلاّ مضطرّا وبعد التهديد والوعيد الشديدين ، ويظهر أن المأمون أراد من الإمام عليهالسلام أن يكون فريسة سهلة توقع نفسها في براثنه ، ولكن الإمامعليهالسلام كشف اللثام عن أهداف المأمون وما يختلج بنفسه من نوايا سيئة وأسقط القناع عن وجهه ، حتى قال عليهالسلام ذات يوم للمأمون : « .. إني لأعلم ما تريد » فقال المأمون وما اريد؟ قال : « الأمان على الصدق؟ » ، قال : لك الأمان. قال : « تريد بذلك أن يقول الناس ان علي بن موسى الرضا عليهماالسلام لم يزهد في الدنيا ، بل زهدت الدنيا فيه ، ألا ترون كيف قبل ولاية العهد طمعا في الخلافة؟ » فغضب المأمون ثم قال : انك تتلقاني أبدا بما أكرهه وقد أمنت سطوتي ، فباللّه اُقسم لئن قبلت ولاية العهد وإلاّ أجبرتك على ذلك ، فإن فعلت وإلاّ ضربت عنقك.
فقال الرضا عليهالسلام : « قد نهاني اللّه تعالى أن اُلقي بيدي إلى التهلكة ، فإن كان الأمر على هذا فا فعل ما بدا لك ، وأنا أقبل ذلك على أن لا اُولّي ولا أعزل أحدا ، ولا أنقض رسما ولا سنة ، وأكون في الأمر من بعيد مشيرا » ، فرضي منه بذلك وجعله ولي عهده على كراهية منهعليهالسلام بذلك.
وهكذا نجد أن إمامنا وجد نفسه أمام خيارين أحلاهما مر : إما القتل ، أو القبول ، فاقترح حلاً توفيقياً ، هو القبول المشروط. أراد أن يوحي للمأمون بأن الأسد قد يقع حبيسا ولكن لايجعله الأسر عبدا ، من هنا حدد شروطه بحيث لا تضفي الشرعية على الحكم القائم ، فوجد المأمون نفسه مضطرا إلى قبولها.
كما اجرى امامنا حوارا اقناعيا مع المأمون ، وبدلاً من اذعان الأخير للحق والمنطق احتكم إلى القوة ولوّح بها ، ولعل أوضح وأصرح تعبير عن ذلك ما جاء عن أبي الصلت الهروي : ان المأمون قال للرضا عليهالسلام : فاني قد رأيت أن أعزل نفسي عن الخلافة وأجعلها لك وأبايعك. فقال له الرضاعليهالسلام : « إن كانت هذه الخلافة لك ، واللّه جعلها لك ، فلايجوز لك أن تخلع لباسا ألبسك اللّه وتجعله لغيرك ، وإن كانت الخلافة ليست لك فلايجوز لك أن تجعل لي ما ليس لك » ، فقال له المأمون : يابن رسول اللّه ، فلابدّ لك من قبول هذا الأمر.
فقال : « لست أفعل ذلك طائعا أبدا » ، فما زال يجهد به أياما حتى يئس من قبوله ، فقال له : فإن لم تقبل الخلافة ولم تجب مبايعتي لك فكن ولي عهدي لتكون لك الخلافة بعدي[١].
لقد أثار قرار القبول ردود أفعال مختلفة في الوسط الاسلامي ، وخاصة الشيعي منه ، وسط دهشة المدهوشين وسخط الساخطين وتربص المتربصين ، وقد شرح الإمام عليهالسلام لخلّص أصحابه ظروف ودوافع قبوله في مناسبات كثيرة ، وردّ على الشبهات المثارة بهذا الخصوص ، لاسيما وان «الرفض» لو حصل لتفهمه الخاص والعام ، لأنه ينسجم مع وضعه العام كإمام معصوم وما تتبناه مدرسة أهل البيت عليهمالسلام من مبادى ء لاتقرّ التعاون مع الحاكم الظالم وترفض إعطاء الشرعية له ، ولكن «القبول» يحتاج إلى تفسير وتحليل وتهيئة الرأي العام لتقبله ، من هنا جهد إمامنا بنفسه على شرح موقفه والملابسات والظروف التي أحاطت بقبوله كما رد الشبهات المثارة والتساؤلات المطروحة.
عن الريان بن الصلت ، قال : دخلت على علي بن موسى الرضا عليهالسلام فقلت له : يابن رسول اللّه ، الناس يقولون : انك قبلت ولاية العهد مع اظهارك الزهد في الدنيا! فقال عليهالسلام : « قد علم اللّه كراهتي لذلك ، فلما خيّرت بين قبول ذلك وبين القتل ، اخترت القبول على القتل ، ويحهم! أما علموا أن يوسف عليهالسلام كان نبيا ورسولاً ، فلمّا دفعته الضرورة إلى تولي خزائن العزيز « قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم » ودفعتني الضرورة إلى قبول ذلك على إكراه وإجبار بعد الإشراف على الهلاك ، على أني ما دخلت في هذا الأمر إلاّ دخول خارج منه »[٢].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[١] عيون أخبار الرضا عليهالسلام ٢ : ١٥١ ، ح ١ ، باب (٤٠).
[٢] عيون أخبار الرضا عليهالسلام ٢ : ١٥٠ ، ح ٢ ، باب (٤٠).