اتّفقت كلمة أهل السنّة ، أو أكثرهم ، على أنّ الإمامة من فروع الدين.
قال الغزالي : « إعلم أنّ النظر في الإمامة أيضاً ليس من المهمّات ، وليس أيضاً من فنّ المعقولات ، بل من لفقهيّات ، ثمّ إنّها مثار للتعصبّات ، والمُعْرِض عن الخوض فيها ، أسلم من الخائض فيها ، وإن أصاب ، فكيف إذا أخطأ ؟ ، ولكن إذ جرى الرسم بإختتام المعتقدات بها ، أردنا أن نسلك المنهج المعتاد ؛ فإنّ فطام القلوب عن المنهج ، المخالف للمألوف (۱) ، شديد النِّفار » (۲).
وقال الآمدي : « واعلم أنّ الكلام في الإمامة ليس من أُصول الديانات ، ولا من الأُمور اللابدِّيَّات ، بحيث لا يسع المكلَّف الإعراض عنها والجهل بها ، بل لَعَمري إنّ المعرض عنها لأَرجى من الواغل فيها ؛ فإنّها قَلّما تنفك عن التعصّب والأهواء ، وإثارة الفتن والشحناء ، والرجم بالغيب في حقّ الأئمّة والسَّلَف بالإزراء ، وهذا مع كون الخائض فيها سالكاً سبيل التحقيق ، فكيف إذا كان خارجاً عن سواء الطريق. لكن لمَّا جرت العادة بذكرها في أواخر كتب المتكلّمين ، والإبانة عن تحقيقها في عامّة مصنّفات الأُصوليين ، لم نَرَ من الصواب خَرْق العادة بِتَرْك ذكرِها في هذا الكتاب » (۳).
وقال الإيجي : « وهي عندنا من الفروع ، وإنّما ذكرناها في علم الكلام تأسّياً بمن قبلنا » (٤).
وقال التفتازاني : « لا نزاع في أنّ مباحث الإمامة ، بعلم الفروع أَليق ، لرجوعها إلى أنّ القيام بالإمامة ، ونصب الإمام الموصوف بالصفات المخصوصة ، من فروض الكفايات ، وهي أُمور كليّة تتعلق بها مصالح دينيّة أو دنيويّة ، لاينتظم الأمر إلّا بحصولها ، فيقصد الشارع تحصيلها في الجملة من غير أن يقصد حصولها من كلّ أحد. ولا خفاء في أنّ ذلك من الأحكام العمليّة دون الإعتقاديّة » (٥).
هذا ما لدى أهل السُّنة ، وأمّا الشّيعة ، فالإعتقاد بالإمامة عندهم أصل من أُصول الدين ، وسيظهر وجهه في الأبحاث التالية.
وها هنا سؤال يطرح نفسه ، وهو أنّه إذا كانت الإمامة من الفروع ، فأيّ معنى لسلّ السيف على هذا الحكم الفرعي ، حتّى قال الشهرستاني : « وأعظم خلاف بين الأُمة ، خلافُ الإمامة ، إذْ ما سُلَّ سيف في الإسلام على قاعدة دينيّة مثل ما سُلّ على الإمامة في كلّ زمان » (٦).
فإذا كان الإعتقاد بإمامة شخص ، تَوَلّى الخلافة بعد رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ ، من الأحكام الفرعيّة ؛ فإنّ المخالفة فيه لا تستلزم تكفير المخالف أو تفسيقه ، إذا كان للمخالف حجّة شرعيّة ، كمخالفة المجتهد للمجتهد.
مثلاً : إنّ المسح على الخُفَّيْن ، أو جواز العمل بالقياس ، من مسائل الفروع الخلافيّة ، فهل ترى من نفسك تجويز تكفير المخالف ، أو تفسيقه ؟ ، أو إنّ لكلٍّ حُجَّته ودليله ، وإنّ للمصيب أَجْرَيْن وللمخطئ أجراً واحداً ، فما هذه الدمدمة والهمهمة حول الإمامة ؟ وإذا كانت الإمامة ، بعامَّة أبحاثها من الفروع ، فما وجه إقحام ذلك في عِداد المسائل الأُصوليّة ، كما ارتكبه إمام الحنابلة ، وقال : « خير هذه الأمّة بعد نبيّنا ، أبو بكر ، وخيرُهُم بعد أبي بكر ، عُمَر ، وخيرهم بعدَ عُمَر عُثْمان ، وخيرهم بعد عثمان ، عَليّ ، رضوان الله عليهم ، خلفاء راشدون مهديُّون » (۷).
ومثلُه ، أبو جعفر الطحاوي الحنفي في العقيدة الطحاويّة ، المسمّاة بـ « بيان عقيدة السنّة والجماعة » ، حيث قال : « وتثبت الخلافة بعد النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ لأبي بكر الصِّدِّيق ، تفضيلاً ، وتقديماً على جميع الأُمّة ، ثمّ لِعُمَرَ بن الخطاب ، ثمّ لعثمان بن عفّان ، ثمّ لعليّ بن أبي طالب » (۸).
وقد اقتفى أثرهما الشيخ أبو الحسن الأشعري ، عند بيان عقيدة أهل الحديث وأهل السُّنة ، والشيخ عبد القاهر البغدادي في بيان الأُصول الّتي اجتمع عليها أهل السنّة (۹).
وهذا الصراع بين القولين ، أراق الدماء الطاهرة ، وجرّ على الأُمّة الويلَ والثُبُور ، وعظائم الأُمور ، فما معنى إقحام الإعتقاد بالأحكام الفرعيّة في قائمة العقائد ؟ وإِنْ هذا إلّا زَلَةٌ لا تُستقال.
نعم ، أَوَّلُ من لبّس الأمر ، وجعل الإعتقاد بها من صميم الإيمان على مسلك أهل السنّة ، هو عَمْرو بن العاص ، عندما اجتمع مع أبي موسى الأشعري ، في دومة الجندل. وما جَعَلَ الإعتقاد بخلافة الخليفتين الأَوَّلَينْ ، إلّا للإزدراء بعليّ ـ عليه السَّلام ـ وشيعته (۱۰).
الهوامش
۱. كذا في المصدر ، والظاهر أنّ « المخالف » صفة « الفطام » ، أو أنّ « المخالف » زائد.
۲. الإقتصاد في الإعتقاد : ص ۲۳٤.
۳. غاية المرام في علم الكلام : ص ۳٦۳ ، لسيف الدين الآمدي ، « ٥٥۱ ـ ٦۳۱ هـ ».
٤. المواقف : ص ۳۹٥.
٥. شرح المقاصد : ج ۲ ، ص ۲۷۱.
٦. الملل والنحل : للشهرستاني ، ج ۱ ، ص ۲٤.
۷. كتاب السنة ص ٤۹ ، المطبوع ضمن رسائل بإشراف حامد محمّد فقي. وهذا الكتاب ألف لبيان مذاهب أهل العلم وأصحاب الأثر وأهل السُّنة ، وَوَصَفَ مَنْ خالف شيئاً من هذه المذاهب أو طغى فيها أو عاب قائلها ، بأنّه مخالف مبتدع وخارج عن الجماعة ، زائل عن منهج السنّة وسبيل الحقّ.
۸. شرح العقيدة الطحاوية ، للشيخ عبد الغني الميداني الحنفي الدمشقي ، ص ٤۷۱ ، وأخذنا العبارة من المتن. وتوفي الطحاوي عام ۳۲۱ هجري.
۹. لاحظ « الإبانة عن أُصول الديانة » ، الباب ۱٦ ، ص ۱۹۰ و « الفَرْق بين الفِرَق » ص ۳٥۰.
ولاحظ « لُمَع الأَدلّة » للإمام الأشعري ، ص ۱۱٤ ، و « العقائد النَّسَفية » ص ۱۷۷.
۱۰. لاحظ مروج الذهب : للمسعودي ، ج ۲ ، ص ۳۹۷. ولاحظ « بحوث في الملل والنحل » ، لشيخنا الأستاذ ـ دام ظلّه ـ ج ۱ ، ص ۲٦٥ ـ ۲۷۲.
مقتبس من كتاب : [ الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل ] / المجلّد : ٤ / الصفحة : ۹ ـ ۱۲