ان الانسان كلما ازداد معرفة بالله ازداد إيمانا به ، وحبا له ، وانقيادا لأوامره وطاعته ، وسعيا في جميع الوسائل التي تقربه إليه.
والامام الحسن قد تغذى بلباب المعرفة ، وبجوهر الايمان ، وبواقع الدين وانطبعت مثله في دخائل نفسه واعماق ذاته ، فكان من اشد الناس إيمانا ، ومن اكثرهم اخلاصا وطاعة لله ، وقد حدث الرواة عن مدى طاعته فقالوا : إنه لم ير في وقت من الاوقات إلا وهو يلهج بذكر الله ، [١] وانه اذا ذكر الجنة والنار اضطرب اضطراب السليم [٢]فسأل الله الجنة وتعوذ من النار ، واذا ذكر الموت وما يعقبه من البعث والنشور بكى بكاء الخائفين والمنيبين [٣] واذا ذكر العرض على الله شهق شهقة يغشى عليه منها [٤] ، وكان من اشد المعتبرين بالموت فاذا حضر جنازة ظهرت عليه السكينة أياما ، واذا مات فى جواره ميت سمع منه النحيب والبكاء كما يسمع من دار الميت [۵] ودلت هذه الامور على عظيم طاعته وخوفه من الله ، ونسوق الى القراء بعض مظاهر عبادته :
١ ـ وضوؤه وصلاته
كان الامام اذا اراد الوضوء تغير حاله ، وداخله خوف عميق حتى يصفر لونه وترتعد فرائصه ، وسئل عن سر ذلك فقال :
« حق على من وقف بين يدي رب العرش أن ترتعد فرائصه ، ويصفر لونه .. »
واذا فرغ من الوضوء وأراد الدخول الى المسجد رفع صوته قائلا :
« إلهي : ضيفك ببابك ، يا محسن قد أتاك المسيء ، فتجاوز عن قبيح ما عندي بجميل ما عندك يا كريم » [۶]
واذا اقبل على صلاته بدا عليه الخضوع والخشوع ، وظهر عليه الخوف حتى ترتعد جميع فرائصه واعضائه [۷] واذا فرغ من صلاة الفجر لا يتكلم الا بذكر الله حتى تطلع الشمس [۸]
٢ ـ حجه
ومن مظاهر عبادته وعظيم اخلاصه وطاعته لله تعالى انه حج بيت الله الحرام خمسا وعشرين حجة ماشيا على قدميه وكانت النجائب [۹] ،
تقاد بين يديه [١۰] وسئل عن كثرة حجه ماشيا فأجاب : « اني استحي من ربي أن لا امضي الى بيته ماشيا على قدمي [۱۱]
٣ ـ تلاوته للقرآن
كان الامام يتلو الذكر الحكيم تلاوة امعان وتدبر فلا يمر بآية تشتمل على نداء المؤمنين إلا قال : لبيك. اللهم لبيك [۱۲] وكان يقرأ في كل ليلة سورة الكهف [۱۳]
٤ ـ التصدق بأمواله
وقدم الامام في سبيل مرضاة الله كل غال ونفيس ، فقد خرج عن جميع ما يملك مرتين ، وشاطر الله أمواله ثلاث مرات حتى أعطى نعلا وامسك اخرى [۱۴]
زهده
ورفض الامام جميع مباهج الحياة ، وزهد في ملاذها ونعيمها ، واتجه الى الدار الآخرة التي أعدها الله للمتقين من عباده ، وقد تحدثعليهالسلام
ـ المصادر وان الجنائب لتقاد بين يديه ، والجنائب. جمع جنيبة وهي الدابة التي تقاد.
عن عزوفه عن الدنيا ، واقتناعه بالقليل منها يقول :
لكسرة من خسيس الخبز تشبعني
وشربة من قراح الماء تكفيني
وطرة من دقيق الثوب [١۵] تسترني
حيا وان مت تكفيني لتكفيني [۱۶]
ورسم على خاتمه بيتين من الشعر يلمس فيهما مدى زهده وهما :
قدم لنفسك ما استطعت من التقى
إن المنية نازل بك يا فتى
أصبحت ذا فرح كأنك لا ترى
أحباب قلبك في المقابر والبلى [۱۷]
وكان كثيرا ما يتمثل بهذا البيت
يا اهل لذات دنيا لا بقاء لها
ان اغترارا بظل زائل حمق [۱۸]
ومما ينسب له في ذم المغرور في الدنيا والمفتون بحبها قوله :
قل للمقيم بغير دار اقامة
حان الرحيل فودع الاحبابا
ان الذين لقيتهم وصحبتهم
صاروا جميعا في القبور ترابا [۱۹]
ومن مظاهر زهده ما حدث به مدرك بن زياد[۲۰] قال : كنا في حيطان ابن عباس فجاء الحسن والحسين ، وابنا العباس فطافوا فى تلك البساتين ثم جلسوا على ضفاف بعض السواقي ، فقال الحسن : يا مدرك : هل عندك غذاء؟ فقلت له : نعم ثم انطلقت فجئته بخبز وشيء من الملح مع طاقتين من بقل فأكل منه ، وقال يا مدرك ما أطيب هذا؟
وجيء بعد ذلك بالطعام وكان في منتهى الحسن والجودة فالتفت عليهالسلام الى مدرك وأمره بأن يجمع الغلمان ويقدم لهم الطعام ، فدعاهم مدرك فأكلوا منه ولم يأكل الامام منه شيئا فقال له مدرك : لما ذا لا تأكل منه؟ فقالعليهالسلام : ان ذاك الطعام أحب عندي [۲١] لأنه طعام الفقراء والمحرومين ، ومما يدل على عظيم زهده أنه زهد في الملك طلبا لمرضاة الله ، وخوفا على دماء المسلمين ، وقد الف فى زهده محمد ابن بابويه القمي [۲٢] كتابا اسماه زهد الحسن وأجمع المترجمون له انه كان أزهد الناس وأفضلهم بعد جده وأبيه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[١] أمالي الصدوق صفحة ١٠٨
[٢] السليم : من لسعه العقرب
[٣] اعيان الشيعة ٤ / ١١
[٤] أمالي الصدوق : صفحة ١٠٨
[۵] مجموعة ورام صفحة ٣١٧
[۶] البحار ١٠ / ٩٣ ، أمالي الصدوق صفحة ١٠٨ ، روضة الواعظين
[۷] أمالي الصدوق صفحة ١٠٨
[۸] البحار ١٠ / ٩٣
[۹] النجائب : جمع ، مفرده نجيبة وهي الفاضل من الحيوانات وفي بعض ـ
[۱۰] اللمعة كتاب الحج واعيان الشيعة.
[۱۱] اعيان الشيعة ٤ / ١١
[۱۲] أمالي الصدوق ص ١٠٨
[۱۳] تاريخ ابن كثير ٨ / ٣٧
[۱۴] اسد الغابة ٢ / ١٣ ، البحار ١٠ / ٩٤
[١۵] الدقيق : الحقير من الثياب
[۱۶] البحار ١٠ / ٩٤
[۱۷] تاريخ ابن عساكر ٤ / ٢١٩
[۱۸] الفصول المهمة لابن الصباغ : ص ١٦٢
[۱۹] المناقب ٢ / ١٤٥
[۲۰] مدرك بن زياد احد الصحابة ، توفى في دمشق بقرية يقال لها « راوية » وهو اول مسلم دفن فيها ، الاصابة ٣ / ٣٩٤
[۲١] تاريخ ابن عساكر ٤ / ٢١٢
[۲٢] محمد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي ، من اعظم علماء الشيعة ، ورئيس المحدثين لم ير فى القميين مثله في حفظه وكثرة علمه ، وهو استاذ الشيخ المفيد ، له من المؤلفات ثلاث مائة مؤلف توفى بالري سنة ٣٨١ ه جاء ذلك في الكنى والالقاب ١ / ٢١٢