لا أعرف أحداً استثمر موته وجنازته وموضع قبره في معارضة السلطة ، كما استثمرت ذلك فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) !
تقول بذلك للأجيال : إفهموا وفكروا لماذا غضبت فاطمة عليهم ، فقاطعتهم ولم تكلمهم حتى لقيت ربها وأباها ؟
ولماذا أوصت أن تدفن سراً حتى لا يحضروا جنازتها ولا يصلوا عليها ؟ !
ولماذا أوصت أن يعفَّى قبرها ولا يعرف مكانه ؟
ولماذا عمل الأئمة من أولادها بوصيتها ، فلم يحددوا قبرها ولم يبنوه ؟
فاطمة الزهراء . . أعطاها الله ورسوله مقاماً عظيماً : سيدة نساء العالمين ، وسيدة نساء أهل الجنة ، واعترف به القريب والبعيد ، وأثبتت بسمو شخصيتها وتميز سلوكها ، أنها أهلٌ لهذا المقام ، وأنها حقاً أمَةُ الله الطيبة الطاهرة المباركة ، التي بشرت بها التوراة والإنجيل ، وأن ذرية النبي الخاتم ستكون منها !
فما لها وقفت أشدَّ موقف من السلطة القرشية بعد وفاة أبيها ؟ وركزت غضبها على زعامة قريش الجديدة أبي بكر وعمر وصاحبهم في مكة سهيل بن عمرو ؟ ! فاتهمتهما بأشد التهم ، ولم تقبل لهما عذراً ، ولا ردَّت عليهما السلام عندما جاءاها معتذرين لها من الهجوم على دارها ، ومصادرة أوقاف النبي ( صلى الله عليه آله ) وفدك ومنعها من إرث أبيها ( صلى الله عليه وآله ) ! مع أن ردُّ سلام المسلم واجبٌ ، وقبول عذره لازم !
ولا نظنها كانت ستقبل لهم عذراً حتى لو أرجعوا لها الأوقاف وفدك ، فقضيتها معهم ليست أوقاف أبيها ولا مزرعة فدك ! فماذا تصنع فاطمة بفدك والأوقاف ، وهي من هي زهداً وعبادة ، وقد أخبرها أبوها أنها ستلتحق به عن قريب ؟ !
فقضيتها أن تثبت للمسلمين أن الذي جلس مكان رسول الله ( صلى الله عليه آله ) لا يؤتمن على الدين والأمة ، لأنه سرق مزرعة من بنت النبي ( صلى الله عليه آله ) فأرسل مسلحين أخرجوا منها وكيلها ووضعوا وكيله بدله ! فيا ويل بنات المسلمين ، ويا ويل الأمة !
قضيتها أنها تراهم غاصبين للخلافة التي هي حقٌّ من الله لزوجها وولديها الحسن والحسين ، وبعدهما للأئمة من ذريتها الموعودين على لسان أبيها !
ترى سقيفتهم مؤامرةٌ وردَّةٌ قرشية عن الإسلام ! ( فلما اختار الله لنبيه دار أنبيائه ومأوى أصفيائه ، ظهرت فيكم حسيكة النفاق . . . هذا والعهد قريب ، والكلْم رحيب ، والجرح لما يندمل ، والرسول لما يُقبر ، ابتداراً زعمتم خوف الفتنة ! أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ! . . . ثم أخذتم تورون وقدتها ، وتهيجون جمرتها ،وتستجيبون لهتاف الشيطان الغوي ، وإطفاء أنوار الدين الجلي ، وإهمال سنن النبي الصفي ، تشربون حسواً في ارتغاء ، وتمشون لأهله وولده في الخمرة والضراء ) ! !
وترى الخسارات العظمى التي أوقعوها بالإسلام والأمة والعالم ، بإبعادهم علياً عن الخلافة : ( والله لو تكافُّوا عن زمام نبذه رسول الله ( صلى الله عليه آله ) لاعتلقه ، ولسار بهم سيراً سُجحاً ، لا يكلم خشاشه ، ولا يتعتع راكبه ، ولأوردهم منهلاً نميراً فضفاضاً تطفح ضفتاه ، ولأصدرهم بطاناً قد تخير لهم الريَّ غير متحل منه بطائل ، إلا بغمر الماء وردعة سورة الساغب ، ولفتحت عليهم بركات السماء والأرض ، وسيأخذهم الله بما كانوا يكسبون ) !
وقد سخرت الزهراء ( عليها السلام ) من منطقهم القبلي الذي برروا فيه اختيارهم لأبي بكر فقالت : ( ألا هلمَّ فاسمع وما عشت أراك الدهر العجب . . . إلى أيِّ سِنَادٍ استندوا ، وبأية عروة تمسكوا ، استبدلوا الذُّنابى والله بالقوادم ، والعجزَ بالكاهل ، فرغماً لمعاطس قوم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ! أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ . . أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلا أَنْ يُهْدَى فَمَالَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ
وقد بلغت قضيتها المدى ، عندما دعت الأنصار علناً في خطبتها القاصعة إلى نصرتها ومقاومة سقيفة قريش وخليفتها بقوة السلاح ، وإلا فهم ناكثون لبيعتهم لرسول الله ( صلى الله عليه آله ) أن يحموه ويحموا عترته ، ولا ينازعوا الأمر أهله الشرعيين ! فقد قالت لهم صراحةً :
( إيهاً بني قَيْلة ! أأهضم تراث أبي وأنتم بمرأى مني ومسمع ، ومنتدى ومجمع ، تلبسكم الدعوة وتشملكم الخبرة ، وأنتم ذووا العدد والعدة ، والأداة والقوة ، وعندكم السلاح والجنة ، توافيكم الدعوة فلا تجيبون ، وتأتيكم الصرخة فلا تغيثون . . . ) ! !
ثم عرفتهم فداحة ما حدث ، وأنذرتهم غبَّ ما عملوا فقالت : ( أما لعمري والله لقد لقحت ، فنظرةً ريثما ننتجوا ، ثم احتلبوا طلاع القعب دماً عبيطاً ، وزعافاً ممقراً ،
هنالك يخسر المبطلون ! ويعرف التالون غِبَّ ما أسس الأولون . . . ! أنا ابنة نذير لكم بين يدي عذاب شديد فاعملوا إِنَّا عَامِلُونَ ، وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ! ) .
إن وصية فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) في تجهيزها ودفنها وقبرها ، كانت عملاً من سلسلة أعمالها المقصودة في خدمة قضيتها مع قريش الطلقاء ، أرادت أن تثير به السؤال في الأجيال لعلها تفهم ما أسسه الأولون وتردد مع الشاعر :
ولأي الأمور تدفن سراً * بضعة المصطفى ويعفى ثراها
بنتُ مَنْ أمُّ مَنْ حليلةُ مَنْ * ويلٌ لمن سنَّ ظلمَها وأذاها