أجمعت الروايات على أنَّه لم يتقدّم من عليٍّ شرك أبداً ، ولم يسجد لصنم قط ، وتكرَّم وجهه منذ أول وهلة ، فلا طاف حول صنم ولا سجد له ، فكانت نفسه خالصة لله تعالى ، وكان عنواناً للشرف والاستقامة ، لقد صاحبته منذ الصبا صراحة الإيمان ، والثقة العالية بالنفس ، والشجاعة الضرورية لكل إرادة حقة ، فكان إيمانه هو الحاكم المطلق ، والمسيطر الأوحد على جميع حركاته وسكناته. فلا مجال لأن يتوهّم من عبارة أنه أول الناس اسلاماً كونه على خلاف ذلك قبل البعثة.
والحقُّ أنَّه كان أوفر الناس حظاً ، بل هو الاصطفاء بحق ، حيث منَّ الله عليه بصحبة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم منذ صباه حتَّى نشأ على يديه ، لم يفارقه في سلم أو حرب ، وفي حل أو سفر ، إلى أن لحق رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بالرفيق الأعلى وهو على ، صدر عليّ ..
إنّه ربيب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم الذي كان يغذِّيه معنوياً وروحياً ويؤدّبه ويعلّمه.
ثم أسلمت السيدة خديجة أم المؤمنين فكانت ، ثالثة أهل هذا البيت ، إنّها أجابت وأسرعت الاجابة ، فكان هؤلاء الثلاثة يعبدون الله على هذا الدين الجديد قبل أن يعرفه بعد أحد غيرهم.
ففي الصحيح : أنَّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم كان يخرج إلى البيت الحرام ليصلِّي فيه ، فيصحبه عليٌّ وخديجة فيصلِّيان خلفه ، على مرأى من الناس ، ولم يكن على الأرض من يصلِّي تلك الصلاة غيرهم [١].
وعن عفيف بن قيس ، قال : كنتُ جالساً مع العبَّاس بن عبدالمطَّلب رضي الله عنه بمكة قبل أن يظهر أمرُ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم فجاء شاب فنظر إلى السماء حيث تحلَّقت الشمس ، ثم استقبلَ الكعبة فقام يصلي ، ثم جاء غلامٌ فقام عن يمينه ، ثم جاءت امرأةٌ فقامت خلفهما ، فركع الشاب فركع الغلام والمرأة ، ثم رفع الشاب فرفعا ، ثم سجد الشاب فسجدا ، فقلت : يا عبَّاس ، أمر عظيم ، فقال العبَّاس : أمر عظيم ، فقال : أتدري من هذا الشاب؟ هذا محمَّد بن عبدالله ـ ابن أخي ـ أتدري من هذا الغلام؟ هذا علي بن أبي طالب ـ ابن أخي ـ أتدري من هذه المرأة؟ هذه خديجة بنت خويلد. إنَّ ابن أخي هذا حدَّثني أنَّ ربَّه ربُّ السماوات والأرض أمره بهذا الدين الذي هو عليه ، ولا والله ما على ظهر الأرض على هذا الدين غير هؤلاء الثلاثة ، قال عفيف : ليتني كنتُ رابعاً [٢].
وبقي هؤلاء الثلاثة على هذا الدين ، يتكتمون من الناس أياماً طوالاً ، رجع في بعضها علي إلى أبيه بعد عودته من بعض الشعاب ، حيث كان يتعبَّد مع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم :
ـ يا بني : ما هذا الدين الذي أنت عليه؟
ـ أجاب : يا أبه! آمنت بالله وبرسوله وصلَّيتُ معه.
فقال أبوه : أمَّا إنَّه لا يدعونا الا إلى الخير فالزمه [۳].
فكان علي أول من أسلم ، هكذا أثبت سائر أهل العلم ، وهذا ماتؤكّده الأحاديث النبوية الشريفة.
ففي كلام أهل العلم : قال اليعقوبي في تاريخه : « كان أول من أسلم : خديجة بنت خويلد من النساء ، وعليٌّ بن أبي طالب من الرجال ، ثُمَّ زيد بن حارثة ، ثُمَّ أبو ذرٍّ ، وقيل : أبو بكر قبل أبي ذرٍّ ، ثُمَّ عمرو بن عبسة السلمي ، ثُمَّ خالد بن سعيد بن العاص ، ثُمَّ سعد بن أبي وقَّاص ، ثُمَّ عتبة بن غزوان ، ثُمَّ خبَّاب بن الأرت ، ثُمَّ مصعب بن عمير » [۴].
وممَّن قال بأنَّ علياً أولهم إسلاماً : ابن عبَّاس ، وأنس بن مالك ، وزيد ابن أرقم. رواه الترمذي ورواه الطبراني عن سلمان الفارسي رضي الله عنه ، وروي عن محمَّد بن كعب القرظي ، وقال بريدة : أولهم اسلاماً خديجة ، ثُمَّ عليٌّ عليهالسلام وحكي مثله عن أبي ذرٍّ ، والمقداد وخباب ، وجابر ، وأبي سعيد الخدري ، والحسن البصري وغيرهم [۵] : أنَّ عليَّاً أول من أسلم بعد خديجة ، وفضّله هؤلاء على غيره [۶].
وعن أنس بن مالك ، قال : « بعُث النبيصلىاللهعليهوآلهوسلم يوم الأثنين ، وأسلم عليٌّ يوم الثلاثاء » [۷].
وجاء في خبر محمَّد بن المنذر ، وربيع بن أبي عبدالرحمن ، وأبي حازم المدني والكلبي : أوَّل من أسلم عليٌّ.
قال الكلبي : كان عمره تسع سنين ، وكذا قول الحسن بن زيد بن الحسن ، وقيل : إحدى عشرة سنة ، وقيل غير ذلك [۸].
وقال ابن اسحاق : « أول من أسلم علي وعمره إحدى عشرة سنة » [۹]؟.
ومن قال : « أسلم عليٌّ وهو ابن عشر سنين » مجاهد برواية يونس عن ابن اسحاق ، عن عبدالله بن أبي نجيح [۱۰].
وقال عروة : أسلم وهو ابن ثمان ، وقال المغيرة : أسلم وله أربع عشرة سنة ، رواه جرير عنه [۱۱].
وعن سعد بن أبي وقَّاص ، وقد سمع رجلاً يشتم أمير المؤمنين عليهالسلام فوقف عليه وقرَّره بقوله : يا هذا ، علامَ تشتم عليَّ بن أبي طالب؟ ألم يكن أول من أسلم؟ ألم يكن أول من صلَّى مع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم؟ ألم يكن أعلم الناس؟ … إلى آخره [۱۲].
قال الشيخ المفيد : « والأخبار في كونه أول من اسلم كثيرة وشواهدها جمَّة ، فمن ذلك : قول خُزيمة بن ثابت الأنصاري ذي الشهادتين رحمه الله فيما أخبرني به أبو عبيدالله محمَّد بن عمران المرزباني ، عن محمَّد بن العباس ، قال : أنشدنا محمَّد بن يزيد النحوي ، عن ابن عائشة لخزيمة بن ثابت رضي الله عنه :
ما كنت أحسب هــذا الأمر منصرفاً
عن هاشــم ثُمَّ منها عن أبي حسنِ
أليـس أول مـن صلَّــى لقبلتهــم
وأعرف الناس بالآثار والسننِ » [١۳]
أما الأحاديث النبوية الشريفة فإنَّ الواحد منها يكفي هنا لقطع النزاع وردّ أيّ ادعاء في تقديم أحد على عليّ عليهالسلام في إسلامه ، والحق أن معظم الذين أدعوا أسبقية أبي بكر لم يقولوا بأنه أسلم قبل علي أو خديجة أو زيد بن حارثة ، بل وضعوا تصنيفاً من عند أنفسهم يجعل لأبي بكر أولوية بحسب هذا التصنيف ، فقالوا : أول من أسلم من النساء خديجة ، ومن الصبيان علي ، ومن الموالي زيد ، ومن العبيد بلال ، ومن الرجال أبو بكر[۱۴]! هذا مع أن أبا ذر ـ على الأقل ـ كان قد سبق أبا بكر ، وكان رابعاً.
ولنقف الآن على بعض الأحاديث النبوية الشريفة التي قطعت كل نزاع وردّت كل ادعاء :
فمما ورد عن النبي الأعظم صلىاللهعليهوآلهوسلم بسند صحيح قوله : «أوَّلكم وروداً عليَّ الحوض ، أوَّلكم إسلاماً عليُّ بن أبي طالب » [۱۵].
وعن سلمان الفارسي : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : « أول هذه الأُمَّة وروداً على نبيِّها أولها اسلاماً عليٌّ بن أبي طالب ». رواه الدَبَري عن عبدالرزاق ، عن الثوري ، عن قيس بن مسلم ، قال الهيثمي : رواه الطبراني ورجاله ثقات[١۶].
وقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم لفاطمة الزهراء عليهاالسلام ، كما رواه أنس : « قد زوَّجتك أعظمهم حلماً ، وأقدمهم سلماً ، وأكثرهم علماً ». وروى نحوه جابر الجعفي وغيره[۱۷].
وقال أبو ذر : سمعت رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم يقول لعليٍّ عليهالسلام: « أنت أول من آمن بي ، وأنت أول من يصافحني يوم القيامة ، وأنت الصدِّيق الأكبر ، وأنت الفاروق تفرِّق بين الحقِّ والباطل ، وأنت يعسوب المؤمنين ، والمال يعسوب الكافرين » [۱۸].
وأخيراً فقد كان علي عليهالسلام يصرِّح في كثير من المناسبات بذلك ، فيقول عن نفسه : «أنا عبدالله وأخو رسوله ، وأنا الصدِّيق الأكبر ، لا يقولها بعدي إلا كاذب مفتر ، ولقد صلَّيت قبل الناس سبع سنين » [۱۹].
ويقول عليهالسلام : « أنا الصدّيق الأكبر ، آمنت قبل أن يؤمن أبو بكر » [۲۰].
وأمّا أبو بكر ، فقد أخرج الطبري في تاريخه بسندٍ صحيح أنه أسلم بعد خمسين رجلاً ، وهذا نصّ روايته : « حدّثنا ابن حُميد ، قال حدّثنا كنانة بن جبلة ، عن إبراهيم بن طَهمان ، عن الحجّاج بن الحجّاج ، عن قتادة ، عن سالم بن أبي سالم بن أبي الجَعْد ، عن محمد بن سعد ، قال : قلت لأبي : أكان أبو بكر أوَّلكم إسلاماً؟ فقال : لا ، ولقد أسلم قبله أكثر من خمسين » [۲۱].
ـــــــــــــــــــــــــ
[١] المستدرك على الصحيحين / الحاكم النيسابوري ٣ : ٢٠١ ، ح٤٨٤٢ / ٤٤٠ ، دار الكتب العلمية.
[٢] تاريخ الطبري ٢ : ٥٦ ـ ٥٧.
[۳] انظر الكامل في التاريخ ١ : ٥٨٣.
[۴] تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٣.
[۵] انظر شذرات الذهب / ابن طولون : ٤٨ ـ ٤٩.
[۶] أسد الغابة ٤ : ١٠٣.
[۷] أسد الغابة ٤ : ١٠٢ ، ينابيع المودَّة ٢ : ٦٨.
[۸] انظر تهذيب الكمال في أسماء الرجال ١٣ : ٢٩٩ ـ ٣٠٠.
[۹] الكامل في التاريخ ٢ : ٥٨٢.
[۱۰] انظرها في أسد الغابة ٤ : ١٠١.
[۱۱] سير أعلام النبلاء (سيرة الخلفاء الراشدين) : ٢٢٧.
[۱۲] مستدرك الحاكم ٣ : ٥٠٠ ، وصحَّحه هو والذهبي ، وحياة الصحابة ٢ : ٥١٤ ـ ٥١٥.
[١۳] الارشاد ١ : ٣٢.
[۱۴] انظر : البداية والنهاية ٧ : ٢٢٣.
[۱۵] الاستيعاب/ابن عبدالبرالقرطبي٣ : ٢٨ ، مطبوع بهامش الإصابة سنة ١٣٢٨هـ.ق ، دارالمعارف ، مصر ،
[١۶] انظر أسد الغابة ٤ : ١٠٣.
[۱۷] سير أعلام النبلاء (سيرة الخلفاء الراشدين) : ٢٣٠.
[۱۸] إعلام الورى ١ : ٣٦٠.
[۱۹] سنن بن ماجة ١ : ٤٤/١٢٠ ، الخصائص / النسائي : ٣ ، المستدرك على الصحيحين ٣ : ١١٢.
[۲۰] ترجمة الامام علي عليهالسلام من تاريخ دمشق ١ : ٦٢/٨٨.
[٢۱] تاريخ الطبري ٢ : ٣١٦.