قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم في مرضه الذي توفّي فيه : « مُروا أبا بكر فليصلّ بالناس ».
فرأىٰ بعضهم في هذا الحديث نصّا علىٰ الخلافة وإن كان خفياً ؛ لعدم الفصل بين إمامة الصلاة والإمامة العامّة.
واستدلّوا لذلك بقول بعض الصحابة لأبي بكر : إرتضاك رسول الله لديننا ، أفلا نرضاك لدنيانا ؟! وأهمّ شيء في هذا القول الأخير أن ينسب إلىٰ عليّ بن أبي طالب (١) !!.
غير أنّ جملةً من الإثارات تحيط بهذا النصّ وبهذه الواقعة ، قد تبتلع كلّ مايُبنىٰ عليهما من استنتاجات :
الإثارة الأُولىٰ : إنّ القول بعدم الفصل بين إمامة الصلاة والإمامة العامة
قول غريب ، وأغرب منه قول الجرجاني : ( لا قائل بالفصل ) (2) !.
فابن حزم يقطع بأنّ هذا قياساً باطلاً ، ويقول : ( أمّا من أدّعىٰ أنّه إنّما قُدِّم قياساً علىٰ تقديمه إلىٰ الصلاة ، فباطل بيقين ؛ لأنّه ليس كلّ من استحقّ الإمامة في الصلاة يستحقّ الإمامة في الخلافة ، إذ يستحقّ الإمامة في الصلاة أقرأ القوم وإن كان أعجمياً أو عربياً ، ولايستحقّ الخلافة إلاّ قرشيّ ، فكيف والقياس كلّه باطل ) (3) ؟!.
والشيخ أبو زهرة ينتقد هذا النوع من القياس ووجه الاستدلال به ، فيقول : اتّخذ بعض الناس من هذا ـ النصّ ـ إشارة إلىٰ إمامة أبي بكر العامّة للمسلمين ، وقال قائلهم : ( لقد رضيه عليهالسلام لديننا ، أفلا نرضاه لدنيانا ) ولكنّه لزوم ماليس بلازم ، لأنّ سياسة الدنيا غير شؤون العبادة ، فلا تكون الإشارة واضحة.. وفوق ذلك فإنّه لم يحدث في اجتماع السقيفة ، الذي تنافس فيه المهاجرون والأنصار في شأن القبيل الذي يكون منه الخليفة ، أن احتجّ أحد المجتمعين بهذه الحجّة ، ويظهر أنّهم لم يعقدوا تلازماً بين إمامة الصلاة وإمرة المسلمين (4).
والذي يُستشفّ من كلامه استبعاد صحّة نسبة هذا الكلام إلىٰ الإمام عليّ عليهالسلام ؛ فهذه النسبة لاتحتمل الصحّة ، لِما ثبت في الصحاح من أنّ عليّاً عليهالسلام لم يبايع إلاّ بعد ستّة أشهر (5) ، كما أنّ الصحيح المشهور عن عليّ عليهالسلام خلاف ذلك ، فجوابه كان حين بلغه احتجاج المهاجرين بأنّ قريشاً هم قوم النبيّ وأوْلىٰ الناس به ، قال : « احتجّوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة » (6) !.
الإثارة الثانية : إنّ إمامة الصلاة وفقا لفقه هذه المدرسة لايترتّب عليها أيّ فائدة في التفضيل والتّقديم ، فالفقه هنا يُجيز مطلقاً إمامة المفضول علىٰ الفاضل ، بل يُجيز إمامة الفاسق والجائر لأهل التقوىٰ والصلاح ، ( صلّوا وراء كلّ برٍّ وفاجر ) !
الإثارة الثالثة : أخرج أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجة والنسائي : أنّ عبد الرحمن ابن عوف قد صلّىٰ إماماً بالمسلمين وكان فيهم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم (7). وهذه الرواية أثبت ممّا ورد في تقديم أبي بكر ـ كما سيأتي ـ فالحجّة فيها إذن لعبد الرحمن بن عوف أظهر ، فتقديمه أوْلىٰ وفقاً لذلك القياس (8).
الإثارة الرابعة : في صحيح البخاري : كان سالم مولىٰ أبي حذيفة يؤمّ المهاجرين الأوّلين وأصحاب النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم في مسجد قباء ، وفيهم : أبو بكر ، وعمر ، وأبو سلمة ، وعامر بن ربيعة (9).
وكان عمرو بن العاص أميراً علىٰ جيش ذات السلاسل ، وكان يؤمّهم في الصلاة حتّىٰ صلّىٰ بهم بعض صلواته وهو جنب ، وفيهم : أبو بكر ، وعمر ، وأبو عبيدة (10).
فهل يُستدلّ من هذا أنّ سالماً وعمرو بن العاص أفضل من أبي بكر وعمر وأبي عبيدة ، وأوْلىٰ بالخلافة منهم ؟!
__________________________________________
(١) شرح المواقف ٨ : ٣٦٥.
(2) شرح المواقف ٨ : ٣٦٥.
(3) الفصل ٤ : ١٠٩.
(4) المذاهب الإسلامية : ٣٧.
(5) صحيح البخاري ـ باب غزوة خيبر / ٣٩٩٨ ، صحيح مسلم ـ كتاب الجهاد والسِيَر ٣ : ١٣٨٠ / ٥٢ ، السنن الكبرىٰ ـ للبيهقي ـ ٦ : ٣٠٠ ، تاريخ الطبري ٣ : ٢٠٢ ، الكامل في التاريخ ٢ : ٣٣١.
(6) نهج البلاغة : ٩٧ الخطبة ٦٧ ، واُنظر : الإمامة والسياسة ـ لابن قتيبة ـ : ١١.
(7) مسند أحمد ٤ : ٢٤٨ ـ ٢٥١ ، صحيح مسلم : الطهارة ـ باب المسح علىٰ الناصية والعمامة ، سنن أبي داود : المسح علىٰ الخفّين / ١٤٩ و ١٥٢ ، سنن ابن ماجة : / ١٢٣٦ ، سنن النسائي : الطهارة / ١١٢.
(8) أُنظر : ابن الجوزي ، آفة أصحاب الحديث : ٩٩.
(9) صحيح البخاري : كتاب الأحكام / ٦٧٥٤.
(10) سيرة أبن هشام ٤ : ٢٧٢ ، البداية والنهاية ٤ : ٣١٢.